السبت، 25 فبراير 2012

ذكرى مولد شيخ الرحّالة المسلمين ابن بطوطة


احتفل محرك البحث العالمي قوقل بذكرى أمير الرحالة ابن بطوطة ، واستبدل شعاره الرسمي بصورة تعبيرية للذكرى .
يعد ابن بطوطة، لدى سائر الدارسين، شيخ الرحّالة المسلمين، وكان له فضل لا ينكر في رسم صور الآخر في الشمال والشرق والجنوب، فرحلته إلى
الهند والصين والجزر المتاخمة لهما تعتبر وثيقة ثمينة في معرفة الأحوال البشرية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن الهجري) وكذلك تطوافه في شرق أوروبا، والقسطنطينية، وحوض البحر الأسود، ثم مناطق القوقاز، وأخيراً رحلته الإفريقية التي اتخذت مسارين: السواحل الشرقية، والانحدار بحراً إلى قبالة جزر القمر، ثم الرحلة الختامية في حياته كرحالة إلى غرب القارة، ووسطها. هذا بغض النظر عن القيمة الاستثنائية للمعلومات التي تضمنتها رحلته الكبيرة في دار الإسلام.
تنبثق رحلة ابن بطوطة بوصفها نصاً متعدد المستويات من أعماق الماضي لتذكّر بالقوة الهائلة للإنسان، الذي بمقدار ما يتصف بالجَلد والمطاولة في التعايش والارتحال، فهو يتميز بأنه مصاب بداء لا شفاء منه: السفر الدائم والمصحوب بحنين أبدي إلى المجهول والغامض، والتعلّق المبطّن بحب الاكتشاف. لم يستطع ابن بطوطة أبداً التخلّص من هذه النوازع المتقاطعة. اتجاهه إلى الشرق في رحلة تقرب من ربع قرن كان يقوده باستمرار إلى حنين جارف صوب الغرب. في النهاية انتصر الحنين الأخّاذ، حينما قارب رحّالتنا الخمسين. في هذه السن لا يمكن تخطّي الحقائق الكبرى: الشوق المفعم بالحنين، والتأمل المصحوب باليأس، وبداية انطفاء الجسد، وذبول الأحلام الكبيرة، واستواء ذاكرة حقيقية جمعت مواردها من معظم أطراف العالم القديم.
عاد ابن بطوطة إلى المغرب، مسقط رأسه حيث تنفس الصعداء، وألقى عصا التّسيار، ولكن الدّاء الأبدي، داء الارتحال والكشف دفعه لخوض مغامرتين أخريين، أقلّ تطوافاً من رحلته المشرقيّة: أولاهما إلى الأندلس، للدفاع عمّا يراه عزيزاً من دار الاسلام، والأخرى إلى إفريقيا بمهمة لا يمكن له إلا الاستجابة لها. ولولا الاستدعاء الذي وصله لتوغّل بعيداً في قلب القارة السوداء، إلى ما بعد الخط الوهمي الذي رسمه الرحّالة المسلمون قبله، إلى المنطقة المحرّمة والمخيفة، قلب افريقيا. وفي حدود علمنا لم يجرؤ أحدٌ على تجاوز ذلك قبله، وليست لدينا وثيقة تنقض ذلك. وقد كان يُنظر آنذاك إلى الشعوب التي تعيش في تلك المناطق على أنها كالبهائم، لا تعرف ديناً، كما يقرر قدامى الجغرافييّن والمؤرخين.
مخر ابن بطوطة العالم القديم، ومن المؤكد أن رحلاته التي تنطلق من مركز لتعود إليه تعتبر طبقاً لأوثق المصادر أوسع الرحلات في القرون الوسطى. فمن المغرب إلى الأقاصي الشرقية لآسيا، ثم العودة والانطلاق إلى الأندلس، والعودة ثم الاتجاه إلى افريقيا. ثلاث دوائر كبرى غطت الأماكن الحيوية في العالم القديم، إلى ذلك فقد زار أقاليم دار الإسلام جميعها، وانطلق باتجاه القسطنطينية، واقترب من كنيستها الكبرى: معقل المسيحية في تلك الحقبة، ووصف الطقوس الدينية فيها، ويمّم ناحية البلاد الروسية، ووصفها ببلاد الظلام، وأزمع التوغّل فيها، لكنه أقرّ بعجزه عن ذلك، لصعوبة المؤونة، وعاد القهقرى مخترقاً وسط آسيا باتجاه الهند، وكان زار شرق أوروبا، وترك وصفاً أخّاذاً لتلك البلاد، برفقة أميرات الترك، وخواتينهم.
ما تتصف به رحلاته أنها تأخذ أشكالاً متعددة، وفي جملتها تكون أشبه بالدوائر المتقاطعة، ولهذا كثيراً ما يمر ببلاد سبق له أن زارها. والواقع فرحلته إلى الشرق تشبه نافورة مياه ضخمة تتضمن سيلاً من النافورات الصغير. لم يشعر بأنه يكرر نفسه، في كل مرة يكتشف شيئاً جديداً مذهلاً ومثيراً للدهشة. وقدم رصداً خصباً ومتنوعاً للقيم والثقافات والعقائد واللغات والعلاقات الاجتماعية والتواريخ والأحوال البشرية والاقتصادية في كل البلاد التي مرّ بها. وركّب صوراً للشعوب والأقوام خارج دار الإسلام على درجة عالية من الغنى، سواء في موقفه السلبي منها، أو الإيجابي. وكانت رحلاته – بالتأكيد - أشمل وأوسع من رحلات سلفه الذي نال شهرة كبيرة: ماركو بولو الذي سبقه إلى أصقاع الشرق بحوالى ستين سنة. وكما قال «بوكهارت» في وقت مبكر من القرن التاسع عشر فإن ابن بطوطة أعظم رحالة دوّن ملاحظاته عن العصر الوسيط، وفضّله «كراتشكوفسكي» على «ماركو بولو» حينما قرر بأن إحساسه العميق بالبعد الحضاري للشرق كان أعمق بكثير مما لدى سلفه الطلياني.
وفي وقت كان فيه «ماركو بولو» قد شُغل بالمتاجرة التي استأثرت على ما سواها باهتمامه، فإن رحّالتنا شغل بكل شيء، وتعتبر رحلته بحسب المعايير السائدة في ثقافة القرون الوسطى رحلة في طلب العلم بالمعنى الواسع للكلمة، فقد كان يتتبع الأولياء والفقهاء حيثما كانوا، فما أن يطرق سمعه اسم أحدهم إلا ويغير مساره إليه من أجل اللقاء والتبرك به، ومع أنه تزهّد، ووزع ثروته الكبيرة على الفقراء، لكنه بالإجمال كان يعيش حياة متجدّدة وحيوية، ينعشها بالزواج في كل بلد يزوره تقريباً. وكان يُشغل بمتع الحياة الطبيعية، ولا يتردد في البحث عن المنشطات الجسدية والذهنية، ولا في وصف أنواع النساء، حيثما حلّ وارتحل، وذلك لم يتعارض مع سلوكه التقوي الواضح، ولم يدّخر وسعاً في انتقاص القيم التي يراها تتعارض والشريعة الإسلامية، لكنه لم ينحبس في أسر تفسير ضيق ومدرسي لها كانت الأمور واضحة لديه.
لم تحل عقيدته وثقافته من دون الاندماج في المجتمعات التي عاشرها، على العكس تماماً، كان ابن بطوطة قادراً على التعايش والتفاعل بصورة يندر مثيلها في ذلك الوقت. وفي عصر كانت العقائد فيه هي التي تحدد الانتماءات الشعورية، وكانت الشعوب تنتج صوراً مشوَّهة لبعضها بحسب الثقافات الدينية السائدة التي تركّب صوراً تطهرية للذات، وصوراً مستكرهة للآخر، كان ابن بطوطة قد تخطّى ذلك بممارسة حياة بين أقوام مغايرين له في أشياء كثيرة. اتصف بقدرة هائلة على التكيّف، من دون أن يفرّط بمعتقده ولا بتصوراته عن المفاهيم التي يؤمن بها. من الصحيح أن بعضها، بصورة لا واعية كانت تتعرض للتعديل، لكن اليقظة العقائدية لديه، بمعناها العام، ظلّت متحفّزة، ولم يلحق بها خمول ولا يأس.
ينبغي علينا أن نأخذ بالحسبان أنه اخترق ثلاثة عوالم من عوالم القرون الوسطى من دون أن يحجم عن طقوسه الدينية والحياتية والفكرية والاجتماعية، وهي: دار الإسلام التي لمس تضاريسها كاملة من الغرب إلى الشرق، ومن الجنوب إلى الشمال، وتجوّل فيها ذهاباً وعودة، ودار الحرب التي بلغ أبعد نقطة فيها، وهي الشرق الأقصى للصين، وبلاد الخطا، بما في ذلك الهند وكل البلاد المجاورة لها من الشرق، وفي البحر عبر سيلان واندونيسيا وجنوب شرقي آسيا، ثم دار الصلح (العهد) وهي البلاد المزدوجة الانتماء، والمهجّنة من العالمين المذكورين، والتي لها ولاء مشترك للإثنين. وحيثما أقامّ كان يتوافق مع النسيج الثقافي العام، ولا يمكن القول ان التقاليد والأعراف الدينية قد منعته من الاندماج، أو حالت دون ذلك، فقد اتصف بقدرة واضحة على التكيّف، وتخطّي الحبسة الثقافية - العقائدية المهيمنة آنذاك.
كان يتعلّم، ويعمل، ويتزوج، ويواصل ترحاله الدائم، ويشارك في الحياة، ولا يبالغ في التوجّس من الآخر، على نحو مفتعل، إلا حينما يشعر بتباين لا يردم بين القيم التي يؤمن بها، وقيم الآخر. إنه، في هذا، يشبه إلى حد ما ابن فضلان والبيروني، فهؤلاء الثلاثة قد عرفوا الآخر مباشرة. ولم يعتمد كثيراً على المرويات الشفهية التي تختزل الشعوب الأخرى إلى كتل خامدة وضالّة ووثنية وعاصية، وإن كانت رحلته الضخمة تتضمن بعض ذلك، ولم ينظر لكثير من الأمم باعتبارها كتلاً صمّاء لا تاريخ لها، ولا هويات، كما كان شائعاً آنذاك إذ تتبادل الشعوب الصور الاكراهية المبنية على تصورات عقائدية ضيقة. كان ابن بطوطة سفيراً يخفق قلبه بالحب، وعقله بهاجس التعايش، وكان الاختلاف ينعش مخيلته وذاكرته على حدٍّ سواء. وكان حريصاً على تتبع الأشياء حيثما كانت، وكثيراً ما كان ذلك يكلفه جهداً ومشقّة، ويعرّضه لأخطار حقيقية».
إن المعاشرة تكشف عمق التماثل في الهوية البشرية، وهي تحترم في الوقت نفسه الخصوصيات الثقافية، فالتعدد والمغايرة والاختلاف يفضي إلى التنوع الخصب. وبسبب كل هذا جاءت رحلته نصاً ثقافياً غنياً متعدد المستويات - كما أشرن - فهي مدونة شديدة الثراء في كشف العالم القديم، تتضمن معلومات تاريخية وجغرافية ودينية غزيرة، ويمكن اعتبارها دون تحفّظ احد المصادر المهمة عن أحوال العالم في ذلك العصر. من وجهة نظرنا، نعتبرها أهم وثيقة أثنوغرافية عن تلك الحقبة، ليس لأنها السجل الكبير الذي يضم بين دفتيه صورة الأحداث والأفكار والصراعات، وتقاليد الشعوب، والعقائد الدينية والدنيوية، فحسب، وإنما لأنها لا تأخذ مساراً واحداً في الوصف والحكم، فهي تضع معاً، الأمور في تناقضاتها وتعارضاتها، وتقدح وتمدح، لكن استناداً إلى أدلة تتصل برؤية ابن بطوطة، ومعتقده، والنسق الثقافي الذي يغذّي شخصيته.
لقد صدق ابن جُزي مدّون الرحلة، حينما وصف ابن بطوطة بأنه (السائح الثقة الصدوق، جوّاب الأرض، ومخترق الأقاليم بالطول والعرض) وأنه (طاف الأرض معتبراً، وطوى الأمصار مختبراً، وباحث فرق الأمم، وسَبر سِيَر العرب والعجم) وهو الذي (طوى المشارق إلى مطلع بدرها بالمغرب). إنه ذلك الرحالة، المسكون بهواجس التجوال، الذي كان يسابق الشمس في إشراقها، وهي تزيح عن العالم غطاء الظلام، فلا غرابة أن يُسمّى (شمس الدين)، وهو يستكشف بإصراره العجيب بلاداً متعددة الأعراق والأديان والثقافات، ثم يستعيد كل ذلك في رحلة مبهرة وعميقة، تصلح مثالاً ممتازاً للتآلف البشري، ومدونة كبيرة تؤرخ للرغبة الدائمة في البحث والتعلّم.

اليوم 25 فيفري 2012

هناك تعليقان (2):

بارك الله فيك